عثمان بن عبد الله الأصم
إدريس بن بابا باحامد -
لا ريب أن لكل أمة من الأمم رجالا وعلماء يستنيرون بهم إذا احلولكت الظلمات، وتشعبت السبل، وتنوعت المسالك، ليروا بهم النور، فيكونوا مشاعل علم وهدى، ومنارات فكر واقتداء، والأهم من ذلك أن تجد رجالا شهد لهم التاريخ برسوخ القدم في القيادة والفكر، لا في محيطهم فحسب بل ذاع سَيْطُهُم ليشمل العالم أجمع، لما تميّزوا به من فكري عالمي، له أصول ومبادئ، ولا يتسنى لنا الحكم بذلك إلا إذا غصنا في غمار تراثهم العلمي، أو على الأقل مؤلفاتهم العلمية، وإن شئت صرا أكثر فقل في آثارهم وإن كانت نزرا يسيرا، إذ العبرة بالأثر لا بالكم والكثرة، ومن علماء الأمة المشهورين بذلك، علماء عمان، لذا حاولت تخصيص بعض الحديث عن بعض الشخصيات العمانية التي دعت إلى تميزت بأفكار عالمية دعت إلى ذلك تحقيقا وتحريضا وبيان أهمية، وهذا من شأنه أن يقرِّب بين الأمم والشعوب، ويؤكد الدور البارز للعلماء المسلمين عموما والعمانيين خصوصا في بث روح التآلف والتكاثف والتعاون، ونبذ العنف والكراهية، وتأكيد معالم الحرية ونبذ العبودية، والدعوة إلى تحقيق التعايش السلمي وإن اختلفت الأجناس والأعراق، والعقائد والأفكار، وسوف يكون الحديث عن علماء من القرون الهجرية الأولى وغيرها إلى أن نصل إلى علماء في وقتنا المعاصر، وهذا لنؤكد أن المنهج السلمي التعايشي سلسلة تميز بها هؤلاء العلماء ولم تنقطع أبدا، يتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل، فما على هاته الأجيال إلا الحفاظ عليها، والتأكيد على ما جاء في هاته الأفكار من قيم. وقد ارتأيت أن تكون هذه السلسلة منضوية تحت مسمى (عالم وفكرة) أو (علماء وأفكار).
عثمان بن عبد الله الأصم
الشيخ الفقيه، أبو عبد الله، وقيل أبو محمد عثمان بن أبي عبد الله بن أحمد العزري نسبا، الأصم لقبا، العقري النزوي مسكنا. يعرف بالأصم، فيما يقال: «أن امرأة أتت إليه تستفتي فأحدثت، فتصامم كي يذهب عنها الخجل». كان مثالا للورع والعفة والنزاهة. له اطلاع واسع في علم الكلام والفقه. ويعد من علماء النصف الأخير من القرن السادس والثلث الأول من القرن السابع الهجريين. من مؤلفاته: «التاج» في الفقه، في خمسين جزءا، مفقود ما عدا الأول والسادس والعشرين، موجود بمكتبة وزارة التراث والثقافة. و كتاب «النور في علم التوحيد» وهو مختصر كتاب «الضياء» للعوتبي الصحاري. و كتاب «البصيرة»، وهو كتاب في العبادات والمعاملات، في جزأين. و كتاب «الأنوار في الأصول». و كتاب «الإبانة في أصول الديانة»، مفقود. كتاب «العقود».(محمد ناصر، سلطان الشيباني، ترجمة:882).
فكرته: «كمال نعمة الله على العباد العقل، لأن غير العاقل لا ينظر بعقله حكمة الله ونعمته عليه، وعلى سائر الخلق أجمعين، ثم إن الله تعالى أتم نعمته عليهم بهذا الإسلام، فالإسلام هو تمام النعم» (النور، ص 263).
يسبح الإنسان في بحر من النعم قد لا يدرك قيمتها إلا بزوالها، فالسليم لا يستشعر قيمة الصحة إلا حين سقمه، والغني قد لا يستشعر قيمة غناه إلا بفقره، والعاقل قد لا يستشعر قيمة عقله إلا حين يرى مسلوب عقل، والمسلم قد لا يستشعر قيمة إسلامه وإيمانه إلا حينما يرى تخبّط غيره ممن لا ينتمون إلى دين الإسلام دين السماحة والفطرة، وهذا في الواقع نابع عن الإلف، فمن ألف العقل قد يغفل عن شكر ذلك، ومن ألف المال قد يغفل عن شكر ذلك، ومن ألف الإسلام قد لا يستشعر قيمة ذلك، ومن ألف الصحة قد لا يستشعر قيمة ذلك، لذا فالإلف في الواقع مشكلة إن غفل إن الإنسان عن التأمل فيما منحه الله تعالى إياه، فعلى المرء كما يقول الشيخ عثمان بن عبد الله الأصم أن يتأمل نعمة العقل لأنه من تمام نعم الله تعالى عليه، ويستشعر ذلك، وكثيرا ما نوجّه البعض إلى زيارة بعض من سلبوا - بإرادة الله وحكمته- نعمة العقل؛ حتى يتبين لهم عظم نعمة العقل التي يسبحون فيها، ويديموا شكر الله تعالى على ذلك، قولا وعملا، فكم من قوي الجسم كامل البنية سلب عقله فصار عليلا بذلك، وكم من ثري فاحش الثراء سلب نعمة العقل فلم يستمع بماله، فالعقل نعمة بها يتبين الإنسان رحمة الله تعالى ويعيش في هذه الحياة مرتبطا بخالقه متأملا في بديع صنعه، فبالعقل يعبُدُ الإنسانُ ربَّه على أكمل وجه، و بالعقل يحيا سعيدا في هذه الدنيا، محققا رضوان الله تعالى في الآخرة.
والحقيقة أن أمراض العقول مختلفة متنوعة لا تحصر فقط في الجنون، فإنكار الحق جنون، والتهور في استعمال العقل ضرب من الجنون، وليقس على هذا ما لم يُقل، والمحافظة على العقل واجبة، وذلك بعدم تعريضه إلى ما ينهكه ويعطّله كالمسكرات وغيرها مما يؤثر سلبا عليه. وإذا تأمل الإنسان في هذه النعمة فإنه لا محالة سيصل بعقله السليم إلى شكر الله تعالى على نعمة الإسلام التي هي تمام النعم، فشكر الإنسان لنعمة العقل بالحفاظ عليه سبيل إلى إدراك النعمة الكبرى التي يعيشها وهي الإسلام، والحق أن شكر الله تعالى على نعمة العقل بالمحافظة عليه مفتاح للتأمل في جليل النعم المتنوعة التي أنعم الله بها على عباده مما لا يعدّ ولا يحصى، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.